لا يُثبَت الشيءُ الا بضدهِ: الرفض, القبول و طرق توظيف اللغة

 

مع نهاية السنة الجارية يبدأ الناس بتقييم خبراتهم و مكتسباتهم التي حصلوا عليها خلالها, فمنهم الذي انحدَر و منهم اللذي بزغ و ارتفع, و منهم من يرى كونه بغيضاً و جافّاً و اخر يراه جميلاً و مليئاً بالسعادة لكنني لن اتكلم عن الفرق بين الشخصين في هذا النص, بل سأشير الى الزامية تغيير المنظور الاخير (الفرد المتشائم) و توجيهه الى منظور آخر. ذلك لأنه لن يرمي صاحبه الى الهلاك فقط, بل لأنه منظور مغلوط ايضاً! حيث ان غالباً ما يملك هذا  الفرد السلبي المتشائِم جفافاً في علم المنطِق و تقصيراً منه في معرفته لطريقة التعامل مع تفاصيل التجارب, مما ادّى الى توظيف عاطفته توظيفاً سيئاً و ادّى الى تخبطه مراراً و تكراراً في المحيط الواحد كنتيجة لهذا التوظيف السيء.

اذاً فالفرد المتشائم و السلبي هو فقط كذلك لانه لا يملك منطقاً كافياً ليكون غير ذلك. اي اننا لو قمنا بتحسين و صقل منطق فهمنا للأشياء -من خلال المعرفة- فاننا سنغير شعورنا اتجاه تجاربنا, و بالتالي تحسين نتائج ادائنا المستقبلي. نحن بحاجة حقاً لفهم طريقة وقوع الاشياء في بيئتنا المحيطة, و لفهم ذلك يجب ان نتقبلها اولاً, فاذا قبلناها سمحنا لانفسنا الانتقال الى المراحل التالية. اي انك كيف ستغوص في موضوع ما و انت لا تقبله! او انك توظف عاطفتك ضده و عكسه فتشد انت و يشد هو الاخر عكسك, اذا فلابد من قبول الاشياء للبدء في ادراك تفاصيلها (القبول هو بداية المعرفة).

فاذا امتلكنا قدرة القبول, بدأناها بتقبل المشاكل و المسائل و المصائب وما كان في هذا المنحنى من تفاصيل اخرى, و بدأنا بالاستفادة منها عوضاً عن المشادّة بيننا و بين عواطفنا السلبية اتجاهها, اصبحنا افراداً نجني الخبرة و المعرفة بدلاً من ان نجني الأرق و الفشل.

و لفهم الموضوع اكثر, هناك قانون لطيف يقول: لا يُثبَت الشيءُ الا بضدّهِ, اي انك لا تستطيع اثبات شيءٍ الا بتمييز عكسه و ما كان في مقابلته. فلن تدري مالسعادة الا اذا قمت باختبار الحزن, ولن تعلم شيئاً عن الصباح ان لم يكن هناك غروبٌ عند نهاية يومٍ ما, و لن تنجح الا اذا عرفت ما ينتج عن الفشل, ولن تعرف شيئاً الا اذا كنت تجهله.  و ليس الضد ما كان في اثبات الاشياء فقط, بل ايضاً يخلق الفِكر الحر القادر على انتاج و خلق الابداع -اي انك قد تعلوا عن ما كنت تطمح اليه مسبقاً- و يستولد فِكرك هذا ما يلزم لجعلك شخصاً مبدعاً. يمكنك ان تساعد نفسك عبر النظر الى مشاكلك من منظور اخر, و لتنظر عبر المناظير الاخرى يجب ان تعلم بأنها موجودة اولاً, و ذلك عبر المعرفة.

المعرفة: كيف نستخدم اللغة؟

لنوظف اللغة يجب ان نفهم ماهيّتها اولاً, فاللغة هي الموروث الوحيد اللذي وصل الينا من الاجيال و المجتمعات السابقة. فكل كلمة في معجم اللغة الواحدة هو معجم يصف خبرات الشعب الواحد المتكلم بهذه اللغة. ذلك لان كل فعلٍ قد  وُجِد هو وصفٌ لعملية ما قام بها او ميزها احدهم, فكيف ستوجد صفة الصانع مثلاً ان لم يكن هناك فعل الصناعة؟؟. و هنا تبزغ اللغة العربية ايها الرفقاء, ذلك لانها لغة غنية و مليئة بالخبرات و التجارب! فنجد ان للكلمة الواحدة عشرات و احياناً مئات المرادفات و الاتضاد, مما يجعل فعلك للشيء الواحد يمكن ان يكون بالكثير من الطُرق, كل طريقة يصفها مرادف ما. مما يؤكد على اهمية تحديد هويتنا, و الاتجاه نحو تبنيها قلباً و قالباً فذلك سيخلق الوٍسع الكافي, و الزخم المناسب لخلق مجتمع مبدع للغاية, و ذلك باستخدام خبرات المجتمعات العربية السابقة. نستطيع ان نقرّب تمثيل هذه العملية (عملية المرادفات و الاتضاد) عبر هذا المثال:

المشكلة: يريد احد الافراد  ان يصبح مبدعاً
طبيعة المشكلة: يصبح مبدعاً. الهدف هو الابداع

    طُرق الوصول الى الابداع – اتضاد الابداع-: إخفاق, عَجز, خيبة, فَشَل, إتّباع, إحتذاء, إستخفاف, إهمال, إستهتار, امتثال, تقليد, حذو,مُحاكاه.

            طُرق تطوير الابداع بعد الوصول اليه-مرادفات الإبداع-: إتقان, إجادة, بَراعة, حذاقة, مهارة, إحداث, إختراع, إختلاق, إستنباط, تكوين, صُنع, إنشاء.

اي انك تستطيع ان تصل الى الابداع بعد ان تختبر الاخفاق, و تمارس الاستهتار ثم تفشل, و تبدأ بالاتبّاع و بالاحتذاء و الامتثال ثم تخيب! فيبدأ تكوينك بالبزوغ و يبدأ ابداعك بالنضوج قليلاً قليلاً. ثم تصل الى مرحلة ما تقرر فيها تطوير ابداعك, لتتجه نحو المرادفات فتبدأ باتقان عملك, ثم تجيده فتبرع فيه و تكسب مهارات جديدة, فتخترع و تختلق و تنشئ و تكوّن و تستنبط و تبدع!!

و على هذا فتجاربك السيئة هذا العام ليست سيئة حقاً, بل كل فشل خضته هو حقاً جزء من نجاح لاحق, و كل خيبة ملكتك هي نواة خبرة تكتسبها في وقت ما. قد يكون فهمنا لهذه المفاضلة الجميلة اثر كبير في حياتنا, حيث ستغير موقع نقدنا للأشياء من “خائض” الى “مشاهد”, مما يحقق لنا مساحة فكريةً جيدة بما يكفي لنكون افراداً فاعلين و منتجين. ان فهمنا لهذا القانون هو فهم ناتج عن المعرفة, و ليس هناك معرفة ان لم يكن هناك قبول! وتذكر ان سلبيتك المفرطة لن تعود عليك بالايجاب ان اصررت عليها, و ستجعل منك حتماً فرداً غبياً و متأخراً عن الوعي السائد حولك ذلك لأنك لم تستطع ان تقبل و ترضى في المقام الأول. و اكاد ان اكون متأكداً بأن استخدامنا لاساليبنا و كنوزنا المعرفية -من اللغة الى الثقافة ككل- بشكلٍ مناسبٍ سيجعل وصولنا الى قمّة العالم ممكناً يوماً ما .

 

أضف تعليق